محمود .. أكتبُ إليك..

أحمد الشرقاوي

اخترتُ هذه الصورة لأكتبَ إليك .. كُنتَ وكُنّا عِنْدَ الحُدُودْ ..الحدود العراقية البرية مع الاردن(معبر طريبيل) .. ديسمبر عام ٢٠٠٠ .. بانتظار ان ننتهي من الاجراءات لِنَعْبُرَ إلى بلادِ الرّافدينْ .. سارة(ابنتي البِكْرْ) والتي تُشرِف على الشهر العاشر من عمرها اتّكّأتْ عليكْ .. في اول محاولاتها للمشي و ربما قبل ان تسقط على الارض استنجدت سارة بِكَ فَتَشبّثَتْ بِدَفترِ مُذَكِّراتِك .. رُبّما ناديْتُ أنا حينها على سارة فرفَعَتْ رأسها صوب كاميرتي فعاجَلْتُها بِكَبْسة الكاميرا ال”ياشيكا” وانت لم تُزِغْ بنظرك عنها لا زِلْتَ تُداعِبُها وتَهْمِسُ إليها: إيش وَلِي سوسو وَلِي سوسو .. اخْتَرْتُ هذه الصورة لك يا محمود ، وقد قَرّرْتَ ان تُوَدِّعَنا .. اخْتَرْتُ هذه الصورة كي أكتُبَ إليك…

لمْ تَكُنْ سفرتي الأولى بِرِفقَتِكْ بَلْ سبقها سفرتين الى بلاد الحرمين ولنا فيها ما لنا من ذكريات بِمَعِيّتِكْ، لكن هذه السفرة كانت الاولى لي وانا حديث عهد بالزواج وحديث عهد بمشاعر الأبُوَّةِ، عِشْنا فيها أجمل اللحظات برحلة عائلية ولا اجمل، فمن فندق بغداد الى دوار الكهرمانة والكرّادة و شارع السعدون والرشيد ودجلة وشاطيء العطيفية ومقهى الشاه بندر وشارع المتنبي وسوق الشورجة والمتحف العراقي والمتحف البغدادي وصرح الشهيد ومدينة الملاهي والكاظمية والاعظمية واحمد نعّوش لِحلوى مَنِّ السما ومطعم ركن العزائم وشاورما قاسم أبوالكص والمستنصرية ، فإيوان كِسْرى، و كربلاء والنجف والكوت و الفلوجة فتكريت وسامراء والمإذنة الملوية والموصل وفندق أوبوروايْ وجامعة الموصل والمأذنة الحدباء واسواقها والاسد المُجنّحِ من آثارها والغابة التي تناولنا على شواطيء دجلة فيها الريوق المُوصلّلي المُزدان بالكاهي والقيمر من حليب الجاموس الطازج الى دعوة من أسر موصلية كريمة على الدُولمة العراقية لطعام الغداء والذي لم نُبْقِ منه حبّة أرز واحدة .. عِشْنا اجمل اللحظات بِمَعِيّتِك يا محمود واسرتك الكريمة .. عِشْنا عائلتي وانا ومجموعة من العائلات اجمل اللحظات وكنت انت المُشرِف على هذه الرحلة وتعطينا من وقتك اكثر مما تعطي اسرتك .. حتى إن أزِفَ الرحيل عن بلاد الرافدين .. قُلْتُ حينها لزوجتي: هذا هو شهر العسل الذي لم أفِ به في موعده.. ها انا أفِ به بأثرٍ رجعي.. وكُنت انت يا محمود السبب بفرحتنا تلك 🙏❤️، وكَرّرْتُ ذات الرحلة مع والدتي بِمَعِيّتِك وعِشتُ كامل لحظاتها وكأنها اول مرة ولا زالت والدتي تذكرك بخير كلما تذكرت فصول تلك الرحلة الجميلة(تلهج وتقول : الله يُذْكُركْ بالخير يا بوزياد) … دائما ما أقول حين زُرْتُ بغداد احببتُها بل عشقتُها .. شعرتُ انها من اجود من يُكْرِمُ ويحنو على خُطّارِها(زُوّارِها).. وانا الان أقول: أن رِفْقَتَكَ يا محمود كانت جزءً من سبب هذا الحب والعشق.

اكتشفتُ أن سِفْرُ الذكريات بِرِحلات عائلية بمَعِيّتك قد امتدّ لسنوات من ١٩٩٧ وحتى ٢٠٠٢ ، وجدتُ في تلك الرحلات انا وكل عائلتي .. وجدتُ ناكرا للذات متواضعا صبورا بشوشا ضاحكا متجاوزا عن زلّات الاخرين واساءاتهم مبادرا .. وجدتُ ووجدنا إنساناً .. من مكة المكرّمة الى المدينة المنورة وجدة وبغداد و الفلوجة والنجف وكربلاء وتكريت وجسر المْسيّب ودجلة والفرات وسامراء والموصل ونويبع والقاهرة والجيزة والاسكندرية ودمشق والبْقاعْ وبعلبك وبيروت وجونية وصيدا وصور وبوابة فاطمة وطرابلس … كنت المشرف على كل تلك الرحلات لا ببرنامجها وتسيير امورها .. بل كنت مشرفا على وجداننا وارواحنا وقلوبنا❤️

اخترتُ هذه الصورة يا محمود .. التي تُجَسِّد أجمل اللحظات الانسانية لأي أبٍ وهو يتحسسّ لحظات حُبِّه الابوية الاولى .. لحظات حُبّه البِكْرْ .. اختَرْتُها في لحظاتِ مغادرتِكَ لنا الى رحاب ربّ كريم .. اخترتها يا محمود لاكتب اليك❤️