محمود ابو غنيمة .. ثلاث مواقف تكفي
محمد محيسن
بعد رحيل صديق او حبيب، وبعد ان أصبح بلا عنوان، وتوقف هاتفه عن الرنين إلى الأبد، نشعر جميعا بالخسارة، ولكن الخسارة الأكبر التي تعتريك، هي التي تعيد إلى ذاكرتك مواقف تتمنى ان تستمر، وان لا تتوقف.. فهي سر المهابة التي واكبت رحيل الرجل الأكثر تفاؤلا وابتساما في تاريخ النقابات المهنية .
بعيدا عن التواضع النادر الذي امتلكه، والابتسامة التي ما فارقته حتى قبل وفاته.. لي مع المهندس محمود زياد ابو غنيمة (ابو زياد ) نقيب المهندسين الزراعيين السابق، ثلاثة مواقف كفيلة بان تشعرني بالخسارة الشخصية، وبالخسارة الأكبر التي مني بها الوطن بعد رحيله عن الدنيا وبات في ذمة الله..
الموقف الاول:
ذات جلسة هادئة، اخبرني أبا زياد المتحفظ في الحديث كعادته، عن تجربة مشاركته في “أسطول الحرية سفينة مرمرة ” وتجربة اعتقاله مع ثلة من المجاهدين، وكيف كان المحققين الاسرائيلين يتحدثون ببذاءة المستهتر واستخفاف عن أنظمتنا السياسية الرخوة وصولا إلى بعض رموزها التابعين، الا ان الخوف المستتر تحت قناع القوة الزائفة كما يقول ابو زيادة ظهر واضحا لدى المحققين، عندما وصل الحديث عن المستقبل، وعن الشباب الأصغر سنا من جيلنا الذي كرست الهزيمة في خلاياه حتى باتت كالسرطان الخبيث.
ابو زياد لم يدعي البطولة وهو حكي التجربة، بل كان شديد التواضع، رغم ان المشاركة في هذا الحدث حالة تستحق ان توصف بالجريئة، على اقل تقدير ، ولكنه نقل التجربة بتحفظ وبالكثير من التواضع، وصولا الى حالة من الحزن نتيجة لما أصاب هرم الأمة ،”فكان يقول هم ليسوا أقوياء ، بل نحن الضعفاء” ويردد باستمرار “الأعداء أقوياء بضعفنا “.
الموقف الثاني:
أما حادثة العلم التي كنت شاهدا عليها فهي ، صورة واضحة لما يحمله ابو زياد في داخلة من حب للأردن وفلسطين مجبولتان بالتراب والمختلطة بألوان العلم .
عندما تسربت معلومات عن اتفاقية الغاز المسروق، مع الكيان الصهيوني، عقدت النقابات المهنية مؤتمرا صحفيا للإعلان عن رفضهم لتلك الاتفاقية، باعتبارها خارجة عن حدود المنطق، ولا تتفق مع المصالح الشعبية والمواقف القومية للأردن.
كان الجو مشحونا بالتوتر ، فمن حضر المؤتمر لم يكن نقابيين فقط ، بل خليط بين المعارضين والكثير من العسس ، في ذلك المؤتمر لم يتحدث ابو زياد كثيرا ، رغم انه خطيب مفوه ، ولكنه وقف على قدميه والتقط العلم الصغير وضمه إلى صدره وقبلة وقال، كلمتين لازلت اذكرهما جيدا، (نرفض هذه الاتفاقية لأننا نحب هذا البلد ونحب ترابه وانتمائه العربي).
الموقف الثالث..
ستون عاملا فقيرا جلهم من مخيم سوف وقرى جرش، يكدحون في مشتل فيصل رواتب هؤلاء لا تتجاوز 300 دينار على أكثر تقدير.. تقطعت بهم السبل بعد أن رفض سائق الشاحنة التابعة للمشتل نقلهم إلى العمل بأمر من المسؤول في ذلك الوقت.
القصة فيها تفاصيل كثيرة، ولكن وللتوضيح.. المشتل يقبع في منتصف الطريق بين عمان وجرش، ما يعني نصف راتبهم هؤلاء سيذهب للمواصلات..
اتصلت بابي زياد على الهاتف عند التاسعة مساء ، وأبلغته بمعاناة العمال التي ستأكل نصف رواتبهم ، على الرغم من حديثي مع الرجل كان عن بعد ، الا أنني استشعرت نبرة الحزن في صوته وهو يقول ، سأعمل ما في وسعي ، وان شاء الله خير ، مضى اقل من ثلاث ساعات ، واذا بمحمود يتصل على الهاتف ليبلغني ان القضية حلت وباستطاعة العمال ركوب الشاحنة والعودة إلى العمل .
لم اعرف ماذا فعل ولكني علمت لاحقا انه اتصل بالليل مع عدد من المسؤولين ، ليحمي العمال ويساعدهم.